الاثنين، 5 سبتمبر 2011

وُريْقة من طفولتي



-1-



كم تعصف بي الذاكرة فتمطرني بذكريات و أحاديث كانت قد اختبأت في غيوم العقل !!



و كم من البديع أنني بهذا العمر أسترجع أحداثاً بتفاصيلها لزمنٍ ولّى و أصبح مأسوراً خلف أسوار القلب ، 

و كأنها حدثت ليلة الأمس!

فكأنما عقلي أراد إعادة بث فقرة الأرصاد "الذكرياتية" التي عُرضت في نشرة "الطفولة و البراءة" ذلك اليوم !! 




-2-

في يومٍ ربيعيٍّ بديع وفي ظهيرة يوم "الزوَارة" 

وبعد أن فرغ الجميع من تناول وجبة الغداء - التي كنا نجتمع حولها جلوساً على الأرض-

تسللنا من غرفة المعيشة إلى ذلك "الحوش" ،

بعدما تأكدنا من خلو الطريق من أي شخص بالغ ، 

فقد كان الجميع قد احتل زاوية من "الدار" المربعة ذات الجلسات الأرضية الزرقاء ، و قد غطّوا نياماً في قيلولة تكاد تكون عميقة،

ولثقتهم بنا وضعونا في الغرفة المجاورة بعدما تأكدوا من "نومنا" ، 

لم يدر في خلدهم أننا كنا نخطط لشيء ما أسررناه في قلوبنا و ناقشناه فيما بيننا تحت الأغطية الخفيفة التي ألقوها علينا لننام ،




-3-

حالة ترقّب و تجسس على العدو النائم للتأكد من عدم استيقاظ أحد، 

حانت لحظة الانطلاق ، 

بخفة تميزنا بها ، 

فقد كانت أطراف أقدامنا الصغيرة تساعدنا في عدم خلق أي نوع من الضجة، 

همس خفيف و حضٌّ على التقدم وعدم الالتفات للوراء، 

فلا بد لذلك المخطط من تنفيذ، 

خرجنا من الباب الخلفي لتلك الغرفة المطلة على الحوش، 

وانطلقنا كعصافير تحررت من أسرها، فردنا أجنحة الحرية و مددناها إلى السماء نعليها تارة ونهبطها تارة أخرى ، 

مقلدين رفرفة الحمام المعلق في السماء، نرفرف على بلاط ذلك الحوش الواسع الرحب الذي احتضن ألعابنا و شقاوتنا ، 

فقد كانت زواياه و جدرانه ملجأ لنا في لعبة "حيّ الميد" 

و أعمدة تلك المظلة المعدنية التي تعلو أرضه كانت لنا ممسكاً في لعبة " العواميد " ، 

أما ذلك الدولاب الأزرق الذي كان مخزناً لأدوات جدي و معدّات الحدادة والنجارة اعتبرناه أفضل مخبَأ نتستّر وراءه حين نلعب " اللبّيدة "، 

و أخيرا كانت سيارة جدتي القابعة هناك آخذة حيزاً لها من طرف الحوش، 

"تويوتا" رمادية تقف بشموخ ، 

كانت جدتي تدخلها أحياناً كثيرة لتغسلها بنفسها و تنظف مقاعدها وأرضياتها، 

فيوم غسيل السيارة هو بمثابة يوم عيد لنا ، 

فعند لحظة دخولها الحوش نركب فوقها ونتزحلق غير عابئين بالغبار المتراكم فوقها أو

الزجاج الأمامي المكسورالذي تجرّأ مرة من المرات

وجرح ركبتي اليمنى تاركاً علامة لم تنمحي حتى اليوم وقد تجاوز عمري العشرين،




-4-

لم تكن الخطة الحقيقية لذلك اليوم أن نتسلل إلى الحوش، و إنما ذلك جزء منها ، 

فالجزء الأكبر من الخطة كان أن نفتح ذلك الباب الحديدي الأسود المؤدي إلى " السكة " ، 

إنه باب ضخم له أربعة دفّات يمكن أن تُفتح جميعها وقت الحاجة ِلأن تُدخل منه السيارة، 

زُيّنت ناحيتيه بقطع ذهبية مائلة للصدأ كأنها جواهر عتيقة رُسِمَت على الباب لتهنأ برؤيتها عين الداخل إليه والخارج منه ، 




-5-

أما و عند لحظة اقترابنا من ذلك الباب بدأت قلوبنا تخفق بشدة ، 

حيث إنها لمغامرة جامحة أن نخرج إلى السكة، 

إلى ذلك المجهول الذي لم تكن أقدامنا الصغيرة تجرؤ أن تطأه إلا برفقة أحد والدينا،

ماذا لو رآنا أحد المارة في الطريق ؟ 

ماذا لو كان أحد الجيران يراقب تحركاتنا؟ 

أم ماذا لو كان أحد الأهل يتتبعنا لحظة خروجنا إلى الحوش؟؟

تلك أسئلة كانت تدور في خلد كل واحد منا ولكن لم يقوَ أحدنا على النطق بها،

ازدردنا لعابنا و تحلينا بجزء من شجاعة الكبار يمتزج بها طيش الأطفال و لهوهم،

توليتُ أنا إدارة مقبض الباب ، فلم يكن يقفل بالمفتاح إلا وقت الليل ، 

فتحته كفاية لأطل بعيني للخارج لأتأكد من خلو الطريق ، لم أر أحداً فقد تعوّد الجميع أن يقيلوا بعد الغداء، 

و عندما تيقنت من أن ليس للسكة عيون تراقب ،

فتحت الباب على مصراعيه و أمرتهم بالخروج دون أن يكونوا مصدر ضجة تفضحنا،




-6-

خرجنا و تسمّرنا أمامها ، 

ها هي تقف بكبرياء منذ أن عرفتها، 

فهي كل ما خرجنا من أجله، وقفنا تحتها صغاراً نرفع رؤوسنا ليمتد بصرنا إلى نهاياتها التي تداعب الغمام ، 



آآه كم كانت مصدر بهجتي !!

كانت طفلة صغيرة يانعة عندما حضرت لمنزل جدي لأول مرة،

لم أرَها في طفولتها فقد "وُلِدتْ" قبلي ولكن الكبار عاصروا جميع مراحل حياتها،

ومنذ اليوم الأول لتواجدها في المنزل وهي ثابتة في مكانها و عنه أبداً لا تحيد،

و كم كانت تثير عَجَبي عندما أرى ملامحها تتغيركثيراً في السنة الواحدة ، 

فمرة أراها كعروسٍ شابة ، تتزين بالألوان طوال الوقت، وخصلات شعرها الكثيف منسدلة على أكتافها الرفيعة،

و مرة أجدها استحالت إلى عجوز شمطاء تساقط "شعرها" و تجمّع تحتها ،

 فكنت أمشي بجانب تلك العجوز و أدوس بقدمي الصغيرة على أجزائها الباهتة المتساقطة،


و لكن لا تلبث الأيام تجري حتى تعود عروساً من جديد ...


  يتبع ..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق